اجتمعت شقيقتان بعد عامين في منزل قريبهما الثالث بعاطفة قوية من الرحبة والوداد؛ رأت الشقيقة الكبرى روب كوماري أن شقيقتها الصغرى رام دولاري تتحلى بالخلاخل والمجوهرات من الرأس إلى الرجلين، وقد بلج وجهها أيضا بعض الشيء؛ هادئة البال، تواقة إلى الكلام؛ وقد زادها الساري الثمين، والخمار المطرز، والسترة الحريرية جمالاً وبهاءً. رام دولاري هذه، هي تلك الفتاة الخرقاء الغبراء، التي كانت تتلاعب هنا وهناك في طفولتها، وآخر ما رأتها روب كوماري هو في عرسها، ولم يكن في ملامحها تغير ما حتى قبل سنتين من الآن؛ صارت طويلة، رغم أنها لازالت نحيفة البدن، مصفرة الوجه، غاية في الوقاحة، عصبية منزعجة ومنفعلة؛ ولكنها، اليوم، مختلفة تماما؛ تتفتح وتزهو بالجمال، من يدري أين كانت أخفت هذا الجمال؟. بل لربما تنخدع العيون؛ ليس ذاك بجمال وبهاء، بل كله طلاء ومكياج؛ لاتتغير الرسوم بالحرير والديباج والمخمل والذهب، ولكنها على هذا وذاك، تسر الناظرين. عشرات النساء مجتمعات هنا، ولكنها هي الوحيدة التي تبلغ من الفتنة والبهاء مبلغهما.
التهبت في داخل روب كماري شعلةٌ من الحسد.
أرادت أن ترى صورتها في المرآة من جديد، كانت رأتها عند خروجها من المنزل، وحاولت في تطريتها كل المحاولة، ولكن تلك الملامح كأنها غابت عن مخيلها إلا ما تبقى من أشباحها المندثرة على خلايا الذهن، وهي مضطربة إلى رؤيتها من جديد؛ رغم أنها تحمل معها المِرآة مع جميع وسائل المكياج، ولكنها ليست متعودةً على التطرية، ورؤية المِرآة داخل الحفلات. من يدري ماذا سوف تظنها هذه النسوة الموجودات هنا، ربما هناك مِرآة في مكان ما، وبكل تأكيد في غرفة الاستقبال. ذهبت إلى غرفة الاستقبال، ورأت صورتها في مرآة على قامة الرجال، فإن ملامحها غير ناقصة، ولكنها ليست طرية، وزاهية، وأنيقة مثل رام دولاري التي تتفتح اليوم، فقد مضى على رونقها الخلاب أمد طويل، ولكنها لم تطمئن بهذه الفكرة، فإنها لا تستطيع العيش على وميض أدنى من وميض رام دولاري؛ ما أحمق هؤلاء الرجال! لا يميزون أصل الجمال من زائفه، ولا يستهويهم إلا المراهقة والأناقة والمجون؛ لهم عيون لايبصرون بها، ألبِسوا رام دولاري ما أرتديه من الملابس، سترون كيف يمَّحي رونقها، ويزول سحرها، وستبدو كأنها امرأةٌ شعثاءُ؛ فمن يُقنع هؤلاء الحمقاءَ؟
لم تكن عائلة رام دولاري على هذه الرفاهية والتنعم، فإن الأزياء، والمجوهرات التي جهزت بها في عرسها كانت غير كافية؛ تنعكر بها الخواطر، ولم تكن في منزلها أثث، وثروات وافرة. كان حموها محاميا، وزوجها طالبا في الكلية. من يدري كيف ترفهت الآن بهذه الثروة والرخوة خلال هاتين السنتين؟. ومن يدري؟ عساها استعارت المجوهرات من الآخر. واستعارت الملابس أيضا لأيام قلائل. هنيئا لها رغدها! وإنني أحمد الرب على كل حال. يا له من تفشي مرض التطاول والتفاخر في البلاد! ليس في البيت ما يقتات به أهلها، ولكنها تتبرج كالأميرات. سوف تضيق ذرعا بما يتقاضاه البزازون، والخياطون، والغسالون من النقود المالية، علاوة على توبيخ زوجها، وزعلها. ولكنها لاتمتنع عن عرض التطرية والتزخرف. ولربما تستهجن عائلتها طبيعتَها الوقحة؛ ما أكثرها خزيا واستياءً!. ما لها ولمن يسخر منها؟ ليس لها إلا أن تنال إعجاب الآخرين. وبكل تأكيد، رام دولاري استعارت الأزياء والمجوهرات من غيرها؛ يا لها من قليلة الحياء!. مع هذه الأفكار، احمر وجه روب كوماري فخرًا. صحيح، أنها لا تملك هذه المجوهرات والأزياء، ولكنها لا تندم أمام الآخرين. إن لروب كوماري وَلَدَينِ وقورين -حفظهما الرب-، تفتخر بهما بسعادة ومودة. إن الحياة ليست بالأكل الجيد، واللباس الفاخر الخلاب. تعيش عائلتها على الكفاف والعفاف، ولكنها عزيزة ومحترمة لا تظلم أحدا، فلا تخاف دعوة مظلوم، ولومة لائم.
هكذا، تمالكت روب كوماري على نفسها، وعادت إلى صحن الدار، إذا بها رام دولاري تخاطبها مترحمة ومتحسرة: "أختي، هل نال زوجك بعض الترقية أم لا زال يعمل على الخمس والسبعين روبيةً شهريا؟".
يبدو أن روب كوماري اشتعلت غضباً بعد سماع هذا الكلام! يا حسرةً على بلادتها! لعل زوجها يتقاضى الآلاف! فردت عليها بخيلاء: "بلى! إنه لقد ترقى الآن على مستوى المئة، وهذا أيضا راتب كبير في أيامنا هذه، وإنني أرى الكثير ممن يحملون شهادة الماجستير، وهم من دون عمل، ربما زوجك الآن في البكالوريوس".
رام دولاري: "لقد ترك زوجي الدراسة يا أختي، كان يضيع الوقت في الدراسة، يعمل الآن وكيلا بالعمولة في شركة، متقاضيا 250 روبيةً شهريا، إضافة إلى العلاوات العمولية، وخمس روبيات للتنقل اليومي، والمجموع 500 روبية تقريبا. منها 150 روبية نفقاته الشخصية؛ يتقلد منصبا كبيرا فلابد له من الالتزام بشرف المكانة والمنصب، وويكتنز تقريبا 350 روبية في البيت، ومنها 100 لي، وبـ 250 روبية تكتمل حاجيات المنزل بترف وهناء. فلم يكن بحاجة إلى أن يكمل الماجستير".
لم تكن روب كوماري أن تعتبر هذه القصة أكثر من قصة جحا؛ ولكن أسلوب رام دولاري الصادق المتين يجعلها تتأثر، وتنفعل، ويبدو في ملامحها سيما الندم والتحسر، ولابد لها من إزالة هذا الانطباع من خاطرها لكيلا تفقد وعيها وحواسها. وعليها أن تُقنِع نفسَها بالمجادلات الخيالية بأن تَزَخرُفَها ليس إلا زيفٌ وكذبٌ، وإلا لكان لها من المستحيل أن تتصبر فوق ذلك. ينتابها التوتر، والكآبة، فكيف لها أن تواجه رام دولاري، إن كانت قصتها صادقة، أوشكت أن تفيض عيناها تحسرا، فشتان ما بين الخمس والسبعين روبية، وخمس مئة روبية راتبا شهريا. لو اضطرت روب كوماري إلى المساومة على الضمير لكسب هذا المبلغ الطائل من المال لما رضيت بها. فإن الضمير لايمكن المساومة عليه بآلاف المئات من الروبيات فضلا عن هذه الخمس مئة التي يتقاضاها زوجها.
استفسرتها روب كوماري باستهزاء: "إذا كانت رواتب العمالة والوكالة هذا المبلغ الطائل؛ فلماذا لا تُعطَّلُ الكلياتُ؟ ولماذا يُدمِّر آلافُ الطلبة حياتهم في الدراسة؟
ردت رام دولاري على أختها بزراية واستهجان:
"أختي، أنت جد مخطئة هنا؛ يتمكن الجميع من نيل الماجستير، ولكن العمالة ليست بأمر يسير لكل من هب ودب، فإنها جدارة موهوبة، يمكن أن يظل أحد متعلما ما دام حيًّا، ولكن ليس له من السهل، أن يصبح عميلا محنكا. أين العالم النحرير ممن هو خبير في اكتساب المال؟ إقناع الزبائن بمبيعاته، وتسويقها بشتى الحيل ليس أمرًا بسيطًا. يتعامل زوجي مع كبار الزبائن، والتجار، كما عليه أن يراود الملوك والأمراء ورؤساء البلاد والأثرياء؛ الذين لايجرؤ أحد غيره أن يواجههم، ويُقنعهم. وإذا واجههم لا يجرؤ أحد أن ينبس أمامهم ببنت شفة. كان يتردد هو أيضا في البُداءة، ولكنه الآن فارس هذا الميدان، سوف تتم الترقية من جديد العام المقبل".
تكاد تتجمد الدماء في عروق روب كوماري؛ ليت السماء تتفطر! وليت الأرض القاسية تتشقق! هل من الإنصاف أن تعيش روب كوماري الجميلة المؤدَّبة الراضية بالكفاف، والمُغرَمة بزوجها، والمُحبَّبَّة لدى أولادها ببؤس وتعاسة، وأن تسعد هذه الخرقاء الوقحة المترفة بالنعمة ورغد العيش؟!؛ ولكن روب كوماري، رغم كل ذلك، راضية مرضية ومرتجية؛ عسى أن يجعل لها الرب مخرجا، ليطمئن قلبها!.
ثم نطقت بالاستهزاء نفسه : "إذن، سوف يتقاضى زوجك الألف روبية بعد الترقية".
رام دولاري: "إن لم يكن ألفا، فلاريب في ست مئة".
روب كوماري: "هل مالك شركته أعمى"؟!
"لايكون التجار عمياناً، عندما تربح لهم ستة آلاف، تكسب منهم ست مئة. ومن يغُشُّ الآخرين لايُغَشُّ!
عندما لم تستطع روب كوماري أن تنتصر عليها عن طريق الاستهزاء، أخذت تزدريها؛ فتفوهت: "لا أظن العمالة حرفة فخر وشرف، تكذب طوال النهار؛ ما أسوأها"!
قهقهت رام دولاري؛ لأنها هزمتها هزيمة نكراء: "إذن، جميع المحامين، والقضاة يعملون السيئات، فإنهم يُزوِّرون الشهادات لمرافقة القضايا، والدفاع عنها مستربحين ومغتنمين؛ ورغم ذلك، نحن نُبوِّؤهم مكان القيادة والسيادة، ونستضيفهم كرؤساء الحفلات، والمؤتمرات الوطنية، ونسوق لهم سياراتهم، ونُمطر عليهم شآبيب الزهور، والمجوهرات؛ فإن الدنيا، اليوم، تفتخر بالدنانير والدراهم، ولايبالي كيف اكتسبها؟ ومن أين اكتسبها؟ وإن صاحب الثروة هو المطاع المعبود؛ ومن لا حَظَّ له في المال هو مُثَبَّطٌ مع كفاءته؛ يقنع باسم الضمير والمروءة والأخلاق؛ فمن ذا الذي يبالي بهذا الضمير والمروءة والأخلاق، اليومَ"؟
سكتت روب كوماري، ولم يكن أمامها سوى أن تستسلم لهذه الحقيقة المريرة: أن رام دولاري كانت أكثر حظًا منها، ولا مهرب لها من ذلك. لكنّها لم تتمكن من كبح تعصبها وتضايقها، فكان السبيل الوحيد للتعبير عن غضبها هو الاستهزاء والازدراء. ومع ذلك، كان يجب عليها زيارة بيت رام دولاري لتتأكد بنفسها من حقيقة وضعها، باستخدام حيلة أو وسيلة ما. إذا كانت رام دولاري قد نالت نصيبًا أكبر من الثروة والنخوة، فليس أمام روب كوماري إلا أن تبكي نصيبها وتقتنع بأن الدنيا لا تساوي شيئًا، وأنها مليئة بالخداع والظلم، وأنه لا مكان فيها للأمانة والصدق.
لكن هل سيهدأ قلبها بهذه الأفكار؟ الحقيقة أن الأمانة تُؤدى من قِبل من لا يغتنم الفرص للخيانة. أما من يختار الخيانة، فهو لا يمكن أن يكون أمينًا إلا في حالته التي يستمر فيها في السير على درب الجُبن. وزوجها يتقاضى خمسة وسبعين روبية شهريًا، ومع ذلك، إذا وجد فرصة لكسب عشرين أو أكثر، فهل سيكون في ذلك عيب؟ ليس ثمة ما يثبت أنه غير أمين طالما أنه لم يختلق وسيلة للكسب الحرام. وبهذا تكون الأمانة والمبادئ مجرد أفكار مفقودة، مهملة في طريق الحياة.
ومع ذلك، لن تتمكن روب كوماري من منع زوجها من الكسب الحرام باستخدام قوتها الأخلاقية، بل قد تجد سعادة في ذلك وتدفعه إلى المزيد من المكاسب. فعندما يعود زوجها من عمله، قد تظهر عليه معالم الجفاء، لكن إذا حصل على علاوات إضافية، سرعان ما تتلهف للترحيب به، منتظرة بفارغ الصبر أن تجد النقود في جيبه.
كان الناس في رقص وغناء في صحن الدار، ورام دولاري أيضا تتغنج به طرباً، وكانت روب كوماري جالسة بجوارها بيأس وملل؛ لاندري، لِمَ كانت مصابةً بالصداع؟، ما لها ولمن يطرب ويرقص بجانبها؟ فإنها امرأة تعساء، أبصرت النور للبكاء والنياح!.
جعل الضيوف يغادرون في الساعة التاسعة ليلا، ووقفت روب كوماري، أيضا، لتكترئ عجلة الحصان، إذا بجوارها رام دولاري تُخاطِبها:
"أختي ماذا ستفعلين باكتراء العجلة، فإن سيارتي ستصل عن قريب، امكثي في داري لبضعة أيام، ثم نودِّعك، وسأخبر بذلك زوجك".
لقد رسبت حيلة روب كوماري الأخيرة أيضا، فتركت خيال تجسس حقيقة ثرائها، بنية التوجه إلى البيت، لكي تختفي في زاوية من زواياه، كيف لها أن تزور بيت أحد في مثل هذه الظروف الضيقة البائسة، فردت: "أختي العزيزة، لست متفرغة الآن، سأزورك قريبا".
"ألاتقضين الليلة فقط"،
"لا، رأسي يؤلمني"،
"إذن، متى ستزورينني؟ سأرسل لك السيارة"،
"سوف أبلِّغك"،
"ولسوف تنسين، لقد مضى عام، ولم تتذكريني قط، كنت أنتظر دعوتك خلال السنة الماضية، نسكن في مدينة واحدة، ولكننا في معزل عن بعضنا البعض".
"حقا، لانجد الفرصة عن أشغال المنزل، وددت أن أستدعيك مرات عديدة، ولكنني لم أنتهز الفرصة لذلك". إذا به زوج رام دولاري السيد غرو سيواك، عاد من العمل، فقدم التحية إلى روب كوماري أخت زوجته الكبرى؛ يرتدي الأزياء الأفرنجية، وبساعده ساعة من الذهب، وبعينيه نظارة مُذَهَّبَةٌ، رجل متقدم حداثي؛ يغمره الذكاء، والهدوء، والمروءة، يا له من شاب وسيم أنيق! فوق مخيلة روب كوماري.
تلفظت، وهي تدعو له الخير: "لو لم آتِ هنا لما كنت التقيت بك".
رد غرو سيواك متبسما: " معك حق"، ثم خاطبها مشتكيا: "لو كنتِ دعوتِني لما رفضتها".
"ما كنت أعتقد أنك تظن نفسك ضيفا علينا، منزلي منزلك أيضا".
"أعترف بأني مخطئ، سوف أزورك قريبا -إن شاء الرب-، ولكن اقضي الليلة في منزلنا".
"لا، لست متفرغة اليوم، سوف آتي قريبا، لعل الأولاد ينزعرون في البيت".
إذ لفظت رام دولاري: "لقد أصررت عليها جدا، ولكنها لم تعد تقبل".
جلست الامرأتان كلتاهما على المقاعد الخلفية للسيارة، ساق غرو سيواك السيارة، إذ ظهر منزلهما بعد قليل، ألحّت رام دولاري على أن تقضي روب كوماري الليلة معها، ولكنها رفضت، قائلة: الأولاد ينزعجون"، ونهائيا، عانقتها رام دولاري، فودعت، ودخلت بيتها، واصل غروسيواك سائقا سيارته، وألقت روب كوماري نظرة خاطفة على منزل رام دولاري، واستحوذت على مخيلتها حقيقة الأمر استحواذا، تحدث غورسيوال بعد قليل: "أختي، ما أحسن الوسيلةَ التي اتخذتُها أنا للاكتساب! ولودمتُ عليه بضع سنوات أكثر لبلغت من الارتقاء مبلغه".
خاطبته روب كوماري برفق:
"أجل، لقد أخبرتني رام دولاري بكل شيء، دمتَ سعيداً أينما كنتَ، ولكن لا بد من التأكد؛ من أين تكسب، وكيف تكتسب؟"
غرو سيواك: "إنني أعتقد أن اكتساب فلس واحد بالغش والخيانة ذنب كبير، فالرفاهية ممتعة مع الأمانة، ولوفقدنا الأمانة في الاكتساب لاستحققنا اللعنة على ذلك، وممن أختفي، ومن أخونه، فإنني أنا المتحكم على كل الأموال، لا مالك لها غيري، أرملته على قيد الحياة، لقد ملّكتني على أموالها، ولو كنت لم أعتن بتجارتها لما بقي لها أثر بعد عين، بعدما انسلكت إلى عمالتها لم يعش مالكها إلا ثلاثة شهور، ولكنه كان رجلا خبيرا بالناس، وظَّفني على مئة روبية، وبعد شهر واحد، فقط، زاد إلى مئتين وخمسين روبية، وأربحتُ له في الشهر الأوال فقط اثني عشر ألف روبية".
روب كوماري: "ما طبيعة عملك"؟
غرو سيواك: "وكالة الماكينات والآليات؛ شراء الماكينات المستجدة المختلفة وبيعها".
إذا بالسيارة أمام منزل روب كوماري المشؤوم، كان مصباح متضائل معلقا على الباب الاستقبالي، وزوجها بابو أماناث يتجدد الهواء قدام البيت، نزلت روب كوماري من السارة، ولكنها لم تصر على غرو سيواك جدا، إلا أنها دعته إلى المنزل، ألبتة، فوق القلب من دون إلحاح، وأما أماناث فإنه لم يلتفت إليه أيما التفات.
بدا لروب كوماري كأن منزلها بعد الآن مقبرة؛ وإنها مستاءة على سوء حظها؛ غرف غير مفروشة، لا أثث، ولا أصص، ولا زخارف، بضعة كراسي متكسرة، وطاولة عرجاء، وبضعة سررِ بالية، هذه كلها متاعها. وحتى صباح اليوم، كانت روب كوماري سعيدة بكل ما في منزلها، ولكنها بعد الآن، لم تعد راغبة فيه، هرول إليها الولدانِِ مناديَينِ: "أمي أمي"، ولكنها زجرتهما زجرا، إنها مصابة بالصداع، ولسوف لاتكلم أحداً، ولم تطبخ الطعام حتى الآن، فمن كان يطبخ؟ لقد شرب الأولاد الحليبَ، ولكن أما ناث لما يأكل شيئا بانتظار روب كوماري، و روب كوماري تشكو ألما في الرأس، فهو مضطر إلى شراء بعض الأخباز من السوق.
خاطبته روب كوماري لائمة:"لم ظللتَ تنتظرني حتى الآن؟ لستُ متعهدةً بطهي طعامك، وماذا لو كنتُ قضيتُ الليلةَ هناك؟ لماذا لاتوظف شغالة؟ هل تريد أن تطحنني هكذا طوال الحياة"؟
ألقى عليها أما ناث نظرةً حائرةً وبائسةً، ولكنه لم يدرك سبب تجهمها وزعلها. "لقد كانت روب كوماري دوما زوجة منقادة غير معتذرة، بل مشجعة ومتفاهمة، كان هو نفسه فكر في إعمال شغالة للمنزل، ولكنها هي التي رفضت هذه الفكرة؛ كيف تقضي أوقاتها لو توظفت الشغالة؟ وهل يُجدي إفناء أربع أو خمس روبيات نفعا؟ ولو ادخرنا هذه الروبيات لاشترينا بها السمن للأولاد؛ ولكنها اليوم تشتكي كل ذلك بغلظة وقسوة".
صرح أما ناث مبررا: "لقد أشرت عليكِ بتوظيف الشغالة مرات عديدة، فلِمَ لم توظفيها، ولو كنتُ طردتها لزجرتني".
"أجل، كنت مخطئةً".
روب كوماري: "هل كنتَ مجدا في ذلك قط؟ أردتَ أن توظف الشغالة دون جِدٍّ، ولم يخطر ببالك، قط، أن تريحني؛ كنتَ مسرورا بأنك تزوجتَ خادمةً جيدةً، تقنع برغيف، وتعيش بصمت: يا لها من خادمةٍ رخيصةٍ! ترضى بالأكل والملبس من باقيات نفقات المنزل؛ تعطيني خمسا وسبعين روبية لميزانية الشهر الكامل؛ من يدري كيف أدبِّرها بعَدٍّ وقَدٍّ؟ ومن يدري كيف ألبس وأكتسي؟ لقد نكدت حياتي معك. ولاشك أن الرجال، أصلا، هم الذين يقطفون النجوم من السماء لزوجاتهم: ها هوذا غرو سيواك؛ هو أقل منك ثقافةً، وأصغر منك سنا، ولكنه يكتسب خمس مئة روبية شهريا، ورام دولاري تترفه كالسلطانة، وأما أنت فكثيرة لك هذه الخمس والسبعون روبية! لستَ برجل؛ ويا له من ذل أعانيه في هذا البيت! مالَكَ ولمعاناتي؟ تريد الملابس منظفة، والوجبات لذيذة، لأنك رجل، تعمل وتكسب؛ فلك كل الخيار........"
استمرت هذه الحالة الهستيرية إلى دقائق طوال، وظل أما ناث المسكين منصتا إليها، لم يكن يذكر أنه تعامل معها قط بالإهمال؛ نعم، راتبه قليل، ولكن ذلك فوق قدرته، إنه يعمل بجد، ويحاول إرضاء المدراء دوما، لقد علَّم أصغر أبناء مديره الأول ستة شهور متتالية هذا العام، فهو سعيد به جدا، فماذا سيفعل الآن؟ ولكنه أدرك سبب انزعاج روب كوماري جيدا، إن يكسب غرو سيواك خمس مئة روبية شهريا، فهو، دون ارتياب، حسَن الحظِّ، ولكن لاينبغي لأحد أن يبكي نصيبَه بترقية الآخري. سنحت له الفرصة، ولكن، هل تسنح للجميع هذه الفرص. سوف يتفحص جيدا؛ هل هو، حقا، يتقاضى خمس مئة روبية شهريا أم يكذب؟ إن يكسب، فهل يبوح لروب كوماري أن ترمي زوجها باللوم والطعن. وماذا لو طعنها ورماها باللوم من رؤية امرأة أجمل وأزهى منها؟ فإن روب كوماري بهية، لطوفة، حلوة، وممتعة من دون شك، ولكن لاتنعدم في الدنيا امرأة أبهى منها منظرا، وأجمل منها ديباجة، وأحلى منها لسانا! ففي وقت من الأوقات، لم تكن لدى أما ناث امرأة أجمل من روب كوماري حول العالم، ولكن تلك المشاعر لم تعد باقية الآن؛ لقد مضى زمن طويل على تجاوزه العالم الخيالي العاطفي إلى عالم الحقيقة، لديه الآن خبرة طويلة للحياة العائلية، لقد اطلع على كنه البشر؛ محاسنه وعيوبه، وليس له إلا أن يعيش صابرا وشاكرا للتمتع بسعادة الحياة. ولاتستطيع روب كوماري أن تتفهم هذه الحقيقة الصارخة، ورغم ذلك، يحبها بابو أما ناث حُبًّا جَمًّا، لم يكن له رد فعل على طعنها، بل كظم غيظه برحابة، وكان من الطبعي أن يخطر ببالها من الأفكار السلبية التي تضيق بها ذرعا، وتمتلئ بها يأساً وقنوتاً، ليست هي متفلسفة، ولا زاهدة عن الدنيا لكي تهدأ بالاً، وتطئمن قلبا في كل حال من الأحوال. وهكذا، سلّى أما ناث قلبه، واعتزم على التحقق من حقيقة أمر غرو سيواك.
عاشت روب كوماري أسبوعا كاملا على حالة من الاضطراب والفوضى؛ منزعجةً لأمر تافه، وزاجرة ولدَيها، وطاعنةً زوجها، وباكيةً نصيبَها، ومنجزةً أعمال المنزل رغم أنفها، لكيلا تعتورها كارثة أخرى، ولكنها لم تكن راغبةً، بعد، في أعمال المنزل. فإن أمتعة المنزل القديمة التي كان علِق بها قلبها، وكانت تتوق إلى تنظيفها وتنسيقها، أضحت الآن، كأنها لم يكن بها عهد قط. كان في منزلها خادم واحد ولاغير، فلما رأى السيدة ربة المنزل مهملةً، بات لاينظف، ولايعمل شيئا. وأصبح الولدان لايناديان أمهما رعبا وخوفا. وطفق أما ناث يهرب من ظلها؛ يتناول ما تيسر له من الطعام، ويتوجه إلى عمله، وبعدما يعود من المكتب يخرج مع ولديه للتنزه. يرتعد فؤاده من مخاطبة روب كوماري ذعراً. وعلى جانب آخر، كان تجسسه حقيقة أمر غرو سيواك على قدم وساق,
ذات يوم، عاد أما ناث من العمل، وكان معه غرو سيواك أيضا، وقد كانت روب كوماري، اليوم، هادئة البال بعد أيام متعددة، مشغولةً في تنظيف الكراسي والمناضد، إذ ورد في بيتها غرو سيواك مقدما إليها التحية، فانزعجت برؤيته هنا، زاعلة على زوجها أيضا: "كيف دعاه هو الآن هنا من دون مشورتي؟ ماذا سيظن غرو سيواك برؤيتي على هذه الحالة"؟ يا له من رجل أحمق!، إنني أريد أن أخفي الأشياء، وهو يزيح ستارها دون حياءٍ، كأنه ارتدى زي الخزي والاستياء؛ ومن دون سبب يستهجنه وينال منه."
سألت عن أحواله داعيةً له، ووضعت أمامه الكرسي. نطق غروسيواك جالسا على الكرسي: "دعاني اليوم أخي، وإنني ما كنت آتيا هنا لدعوته، ولكنه قال: "إن زوجتي مصرة جدا" فاضطررت إلى أن أحضر لأزورك".
ردت عليه روب كوماري باحتيال: "كنا التقينا ذلك اليوم على استعجال، كنت مشتاقة جدا للقياك من جديد".
ألقى غرو سيواك نظرةً على البيت، وأثثه قائلاً: "ربما تتضايقون جدا في هذا القفس".
اكتشف لروب كوماري بالتو؛ كم هو الأبله الوقح؛ لايبالي بعواطف الآخرين، ولايعقل أن كل إنسان ليس بذي النصيب الأوفر، قلما يوجد واحد فيما بين مآت الألوف، ثم ردت بقدر من الاكفهرار: "العيش في القفس أفضل من العيش في الزنزانة؛ إن الطيور البريئة هي التي تقطن في القفس، وأما الزنزانة فهي مصير الوحوش والطغاة".
لم يتسنَّ لغرو سيواك أن يفهم هذه الكنايات، فتلفظ من جديد: "لطالما يضيق الإنسان صدراً، ويختنق في مثل هذا البيت، سوف أحدد لكم منزلا واسعا، وكبيرا بجوار منزلي من دون أجرة، فإن المنزل هو لسيدتي مالكة الشركة، أنا أيضا أسكن في دارها، ولها مآت البيوت والدور، وكلها تحت رعايتي، فإنني أعطي ما أشاء من البيوت من أشاءه! ولي الخيار أن آخذ الأجرة أم لا آخذ! سوف أصمم لكم أفضل البيوت وأجودها، فإنني أحترمكم جدا........"
أدركت روب كوماري أن السيد، الآن، سكران؛ فيثرثر ويهذر، انكمشت عيناه، وانتفخت خداه، ويتلعثم لسانه، وهذه الحالة في ارتفاع مستمر حينا بعد حين: "شاب وسيم كريم"؛ بات فاقد الحياء، ومكروه المنظر!"
وبعد قليل، أخذ يهذر من جديد: "أحترمكِ جدا، فأنتِ زوجة أخي الكبير، سأفدِّيكِ بنفسي، ولايستحيل لي أن أجهز لك بيتا، أنا وكيل عقيلة السيد لوهيا، وإنني أنا المشرف على جميع أملاكها، أجل؛ جميع الأملاك! فإنها تتقبل كل ما أطلبه بقبول حسن، وأنا بمثابة ابن لها. كان السيد لوهيا وظفني على عشرين روبية فقط، كان رجلا ثريا، ولكن لا أحد يعلم من أين له هذا المال كله؟ وحتى هذه اللحظة، لايعلم ذلك أحد غيري؛ كان مُهرِّباً، لاتقل لأحد، كان مهرب المخدرات، يتعدى دخله مآت الألوف، وأنا أيضا أشتغل في العمل نفسه، وكلائي وعملائي متوافرون في كل مدينة، لقد درَّبني على هذا المجال تدريبا، فأنا نسيج وحدي، لايجترئ أحد على أن يعتقلني؛ لي صداقة حميمة مع كبار الإداريين، وضباط الشرطة، فإنني أسكتهم بملء أفواههم نقودا وأموالا. لايطيق أحد أن ينبس ببنت شفة؛ أكتب لهم ألفاً، وأعطيهم خمس مئة، والعلاوات للأصدقاء، يأتي الدخل بغير حساب، وأنفق أيضا بغير حساب. وليس للسيدة العجوز إلا أن تسبح باسم الرب، مشغولة بخدمة الرهبان والنساك، وأنا المستمتع بنعيمها، أبَذِّر تبذيرا، لا أحد يحاسبني، ولا أحد يؤاخذني؛ (أخرج كومة من النقود من جيبه) وقال: هذه هدية إليك، ادعي لي الرب. ولكن المحافظ على إيمانه ومبادئه يطرده المال طرداً، فإن المال يخضع لمن يبيع دينه وضميره من أجله. لاتسبيني يا أختي؛ إن الأغنياء كلهم لصوص نَهَّابون، وأنا أيضا منهم: ولو أصبحت، بالغد، صاحب الثروة، وشيَّدتُ دار المسافرين لأمطر الناس علي شآبيب التهاني والتباريك، ومن يتجسس؟ من أين لي كل هذا المال؟ محاميٌّ يكسب ألف روبية في غضون ساعة واحدة، وطبيب يتقاضى خمس مئة روبية بعملية جراحية بسيطة؛ إذا كان مدخولهما مباح وحلال، فدخلي أيضا مباح وحلال.! نعم، إنه حلال بكل تأكيد! تترفه مجتمعاتنا، وتتنعم عن طريق نهب الفقراء، والمساكين من قديم الزمان؛ أنا أيضا أمارس ما يمارسه الآخرون: فإن الغرض المنشود لحياتنا هو الاستمتاع والترفه، أنا أيضا سأترفه بالنهب، ثم أتبرع، ثم أكون زعيما يوماما. ولو شئتِ أنتِ لأحصيتُ لكِ؛ كم من الذين أصبحوا المليارديريين عن طريق النرد، والقمار، وكم منهم عن طريق تسويق المؤمسات."
إذا به أما ناث يناديه: "ماذا تفعل أيها السيد غرو سيواك؟ هيَّا نحتس الشاي؛ فإنه يكاد يبرد".
وقف غرو سيواك، فزلَّت قدماه، فسقط مغشيا، ثم أفاق، فوقف من جديد على حذَرٍ، وخرج متمائلا متعثرا، تنفست روب كوماري الصعداء، وقد ضاقت ذرعا بالجلوس معه هناك، بات مناخ الغرفة ذا عفونة وثقل، وانكشف غبار الحقيقة المكروهة المتعكرة التي كانت تتجسد لها أوهامها الخلابة منذ أيام، فإن البيئة الساذجة الخشنة والخالصة التي عاشتها حتى الآن، لم يكن فيها مزيج من المال الحرام، وكسب الغش والتهريب، ولم تكن لها تطلعات إلى الترف والبذخ والرفاهية عن طريق المال الحرام قط، ومنذ الآن، سوف لاتقارن نصيبها مع نصيب أختها رام دولاري، فإنها سعيدة بما لها من الأثث، والأمتعة: وبدأت تترحم على رام دولاري التي تدمئ ضميرها للترف والتظاهر؛ ولكن قلبها رق في لمح البصر تجاه غرو سيواك؛ إن المجتمع الذي يُتعبّد فيه المالُ، ويكرم الإنسان فيه بالحساب المصرفي، والصولة والجولة، وهو من دون شك، مؤرَّطٌ بالأهواء والرغبات وشهوات البطون، ووعورة المسالك التي تفضيه إلى إثارة الغضب، والعصبية، والاستكبار. فلاغرو، أن تزل قدما غرو سيواك في مثل هذه الظروف.
إذ ورد إليها أما ناث سائلا: "ماذا كان يهذى غرو سيواك؟ لقد ودّعته توديعا خوف أن لا يتربص له الشرطة، ويتم اعتقالي من دون ذنب".
ردت عليه روب كوماري باعتذار: "كان يحكي علي قصص تهريبه".
"أجل، لقد كان دعاني أيضا أن أقابل السيدة عقيلة السيد لوهيا، لعلي أجد وظيفة مناسبة لديها".
"كلا، لاداعي لذلك، واصِل عملَك محررا، وفيه كل الخير".
"ولكن أين الرفاهية في وظيفة المحرر؛ أود أن أتمتع بذلك العالم أيضا بإجازة سنة واحدة".
"لا أرغب في رفاهية مثلها".
"لو كنتُ أطلعتُكِ على حقيقة الأمر لما كنتِ تُصدِّقينني".
"أجل، ما كنتُ صدَّقتُكَ، حتى ما كنت أعتقد بأن إنساناً يُسمِّمُ الآخرين لاكتساب المال".
"لقد كنتُ مطلعاً على حقيقة أمره، فنوَّلتُه كؤوساً للخمور ليهتز نشوةً وسكراً، ويكشف بنفسه الأسرار".
"هذا صحيح، ولكنك كنتَ أيضا حريصا على تلك المهنة".
"أجل، كنت راغبا فيها، ولكن، أنى لي ولتلك المهارات لممارسة الجرائم"!
"-لا قدّر الرب- فإنني قلقة جدا على المسكين ذاك، من يدري ماذا كان به طوال الطريق".
"لا داعي للقلق، كان على سيارته".
ظلت روب كوماري متحملقة نحو الأرض لهنيهة، ثم تلفظت:
"خذني إلى منزل رام دولاري، عساني أن أساعدها بعض الشيء، فإن النعمة التي تتقلب حولها، وتمرح، هي بيد الوحوش الضاريات المتربصات: عساني أن أنقذها من الهلاك".
***********
*******
***