قصة: تلك الرائحة
بقلم: أحمد طوسون/ مصر
أول من علقت الرائحة بأنفه كانت تحية.
تسكن حجرة صغيرة بسطح العمارة.. أخذت مفتاحها من الأستاذ رمضان ودعت له بالستر في الدنيا والآخرة.
زوجته كانت تستخدمها في تربية الطيور..
عادة لازمتها منذ نشأت في قريتها البعيدة!.
لم تتركها بعد زواجها من رمضان أفندي، أو عندما تركت سكنى البيوت الفسيحة بعد التحاق زوجها بوظيفة في البنك وانتقالهما معا إلى المدينة، وسكنت بشقة في العمائر الجديدة التي تتشابه وتجعل من ساكنيها لونا واحدا بلا فوارق.
أول ما سألت عنه، أين ستضع دجاجاتها؟
بنت "عشة" من الطين والتبن فوق سطح العمارة -حسدها عليها سكان العمارة- ووضعتهم فيها.
عشش كثيرة بُنيت إلى جوار عشتها، مرة بالطين، وأخرى بخشب التبن وجريد النخيل، وأحيانا بألواح من الصفيح الصدأ، وثالثة بنيت بأنصاف قوالب الطوب الأحمر المتبقية من مخلفات البناء.
كلها تهاوت وبقيت عشة زوجة الأستاذ رمضان صامدة في وجه الزمن!
كأنها صمدت لأجل تحية..
تعرف عليها الأستاذ رمضان حين رآها تمسح أرضية البنك وواجهته.
حينها رأى عينيها تتكتمان على شيء دفين من الحزن، ولم يجد فيهما طلة المترددات على الخدمة في البيوت.
بعد انتهاء الدوام، طلب منها أن تمر عليه لتؤنس وحدة زوجته وتساعدها في تنظيف البيت وأعمال المطبخ.
منذ تزوجت ابنته الوحيدة والعبء تضاعف على زوجته.. صحتها لم تعد كما كانت في الماضي السحيق.
حين زارته بالشقة فتحت زوجته معها تحقيقا طويلا، لم يكن الأستاذ رمضان يعرف له مبررا.
ليس عندهما ما يخشيان عليه منها.. ستقضي عندهما ساعات وتنصرف إلى حال سبيلها.
تحية قالت إن أمها كانت تعمل غازية في شبابها، لكنها لم تنس كارها حتى بعد أن كبرت وولى شبابها وضاعت أنوثتها وترهلت.
ليس ذنبها أنها ولدت لأم تعمل غازية، ولأب لا تعلم عنه شيئا.. حتى اسمه الذي يلاصق اسمها في بطاقة الهوية لا تثق في صحته!
الذنب ليس ذنبها.
تريد أن تعيش مثل خلق الله، تأكل وتشرب من عرق جبينها، وآخر الليل تضمها جدران أربعة ويسترها باب لا أحد غيرها يمتلك مفتاحه.
الخدمة في البيوت ليست عيبا، العيب أن تبيع جسمها لكل عابر، أو تأكل بثدييها!
لمحت زوجة الأستاذ رمضان دمعة تحتبس في عيني زوجها، ثم رأته يخرج ورقة بعشرة جنيهات ويعطيها لتحية.
كتمت غيظها حتى ذهبت تحية إلى المطبخ.. عنفته وقالت:
لا تخدعك نظرات المسكنة!
اعتادت أن تزورهم في أيام الجمع، تتجول في الشقة بخفة، تكنس وتمسح وتغسل الملابس التي تكدست بالحمام وتكويها دون تبرم أو شكوى.
حين يعود الأستاذ رمضان من صلاة الجمعة تكون انتهت من تنظيف الشقة، تأخذ الخضار والطلبات التي أحضرها معه وتذهب إلى المطبخ لتحضير الغداء.
آخر النهار تصعد إلى عشة الطيور تنظفها هي الأخرى..
تفتح باب قن الدجاج، تنظف القن وتفرش تبن الأرز على الأرض وترشه بالمياه ثم تضع الحبوب والماء للدجاجات وتهبط لتبدل ثيابها وتجلس إلى جوار الأستاذ رمضان وزوجته وهما يتبادلان حديثا أشبه بالركام، لا غرض منه إلا قتل الوقت!.
تشاركهما بعضا منه.. تظل تمدح نوعية الأثاث وخشبه الزان والفرش الذي لا يوجد مثيله هذه الأيام، وغرف الشقة المربعة التي يسهل توظيف أثاثها.
ثم تحمل كيس ملابسها وتتركهما وترحل.
تغيب وتعود..
مرضت زوجة الأستاذ رمضان ونصحها الأطباء ألا تغادر سريرها، فأصبحت تتردد عليهم كل يوم.
بعد أن تنظف الشقة وتناول زوجته العلاج، تعد له طعامه، ثم تصعد إلي سطح العمارة لتراعي الدجاجات.
في أحد الأيام بدت حزينة.. بقايا لدموع ساخنة جفت على خديها وتركت حفرا غائرة مكانها.
حين سألها الأستاذ رمضان عما بها.. نكست رأسها ونظرت إلى الأرض ولم تتكلم، جرجرت خطواتها بتثاقل وانسحبت من أمامه.
سمعها تتمتم في المطبخ وتحدث نفسها بكلمات لم يستطع أن يستبينها.
وضع الجريدة التي كان يتصفحها وأشعل سيجارة وقال لنفسه: "كيف تحافظ المرأة علي نفسها بين غابة من الذئاب".
بعدها فاتح زوجته بخصوص الحجرة التي بنتها فوق سطح العمارة للدجاج.. قال إن أنفلونزا الطيور تنتشر هذه الأيام والحكومة تحذر الناس من تربية الطيور في البيوت.
زوجته صدمتها فكرة الاستغناء عن دجاجاتها..
صمتت للحظات تحسرت فيها على صحتها التي خارت وشبابها الذي ولى، وابنتها التي لم تعد تسأل عنها أو تزورها إلا في الأعياد والمناسبات.
بعدها هزت رأسها الذي كان يطفح بمسرات بعيدة تفلتت من بين يديها واحدة بعد أخرى، وقالت بصوت مكدود:
تحية لم تصدق أن تمتلك يوما جدرانا أربعة يلتفون حول جسدها ويسترونه، مالت على قدمي الأستاذ رمضان وكادت أن تقبلهما، لكنه منعها.
ظلت تلاحقه بدعوات لا تعرف متى حفظتها وكيف خطرت على بالها، حتى نهرتها الزوجة وأمرتها أن تصعد إلى السطح لتعد العشة لسكنها.
تحية قالت لنفسها إن معها قرشين ستبني بهما دورة مياه بجوار الحجرة إذا لم يعترض أحد من سكان العمارة!
بنتها وبنت إلى جوارها صالة وضعت عليها بابا وأًصبحت شقة صغيرة لها.
أغلقت بابها ورقدت على الأرض فتفتحت أمامها صفحة السماء الواسعة من حجرتها الصغيرة.
حلمت أن تكبر حجرتها ويشاركها فيها ابن الحلال الذي يؤنس وحدتها ويذيب قسوة الصقيع من حولها.
دقت أبواب شقق العمارة بحثا عن عمل إضافي يساعدها على أعباء المعيشة.
لكن شقق العمارة كانت عبارة عن مكاتب لمحامين ومحاسبين، يأتون ويذهبون كل يوم، ويقوم بتنظيفها عمال المكاتب.. أما باقي الشقق فكانت خالية من السكان، تركها أصحابها إلي بيوت واسعة وكبيرة.
وحدها الست فوزية تسكن بشقة بالطابق الأرضي.
كلّمت عم جمعة البقال ليخبر الست فوزية إن احتاجت شيئا فهي موجودة وتحت أمرها فيما تريده، لن تتأخر عن مساعدتها في قضاء حوائجها وتنظيف شقتها.
عم جمعة قال إنها امرأة وحيدة وطلباتها قليلة.. لا يشغلها شيء في الحياة إلا تربية القطط!..
أما القرش فتخرجه من تحت الضرس..
لكنه سيكلمها على كل حال!
أيام وليال طويلة مرت.. ولم تجد تحية ابن الحلال، أو تطلبها فوزية لمساعدتها.
تمر الساعات قاسية عليها وحيدة بين جدران حجرتها، تثير حنينها إلى ساعات العمل التي تقضيها بين الناس في خدمة البيوت.
فكرت أن تقتني قطا يشاركها الحجرة ويكون أنيسا لها، إذ لا أحد يقرع عليها الباب ليكسر عزلتها.
زوجة الأستاذ رمضان قالت إنها مجنونة.. ماذا ستفعل بالقط.. من الأفضل لها أن تربي كتاكيت، حين يكبرون تبيعهم وتسترزق من ورائهم!
لكنها لم تعبأ بكلامها، قرعت باب الست فوزية ربما أعطتها واحدا، أو استعانت بها لمساعدتها في تنظيف شقتها!
فوزية ظلت تردد بفزع من خلف بابها:
فوزية أطلت من فتحة الباب الذي ظل مواربا، وقالت:
لما تحبي تشتري ابقي قوليلي وأنا أقولك باشتريهم منين!
قالت جملتها الأخيرة وأغلقت الباب في وجه تحية التي لم تفهم شيئا مما قالته.
تحية صعدت إلى حجرتها وهي تكلم نفسها.
لم يكذب العم جمعة فيما قاله بحقها، امرأة لا تطاق..
زوجة الأستاذ رمضان برقبتها..
لم يبق إلا القطط ليشتريها الناس بالفلوس!
***
حين شمت الرائحة احتارت في سببها، فتحت باب حمامها لكنها وجدته نظيفا.. اعتادت أن تنظفه في اليوم مرتين، ولا تترك غسيلا يتراكم وتفوح منه رائحة كريهة.
قالت لنفسها ربما فعلها القط تحت السرير، عانت من مشكلة تبوله وتبرزه في أي مكان بالحجرة بعد أن أحضرته من أحد البيوت التي تخدم بها وأراد أصحابه التخلص منه لذلك السبب.
لكن بعد أن عاقبته لمرات لم يعد لتلك الفعلة المشينة.
يتسلل إلى السطوح ويفعلها بعيدا.. هي نفسها احتارت إلى أين يذهب بعد أن لاحظت عدم وجود أثر لمخلفاته بالسطوح كله.
فكرت وقالت: ربما كانت الرائحة لفأر ميت تحت أشيائها.
قلبت الحجرة رأسا على عقب ورشتها بالفنيك، لكنها لم تجد أثرا لشيء.
خفت الرائحة لكنها بعد يومين عادت من جديد.
حين نزلت إلى الأستاذ رمضان ألمحت إليه بشأن الرائحة التي تغزو أنفها.
زوجة الأستاذ رمضان لم ترتح للإيحاء الذي وصلها من كلام تحية.. ترددها عليهم زاد عن الحاجة.. بالكاد لا تتركها إلا عند النوم وهي أصبحت لا تغادر سريرها.
الأستاذ رمضان يعرف ربنا لكنه في النهاية رجل مثل بقية الرجال، أما هي فطول عمرها نظيفة حتى وهي على فراش المرض.
نهرتها وقالت:
الأستاذ رمضان قال:إن معها حق.. كلما خرج إلي البلكونة استشعر رائحة غريبة واخزة لم يكن يستطيع تميزها.
لكن كلام تحية دله عليها.
تحية قالت إنها ستقلب الشقة وتغسلها حتى السقف.. ربما كان فأر ميت في مكان ما.
مع الأيام ازداد وخز الرائحة حتى اشتكى كثير من العاملين بمكاتب المحامين والمحاسبين بالعمارة ومن المترددين عليهم.
كل واحد من أصحاب المكاتب أعطى مفتاح شقته لتحية يوما وفي نهاية اليوم أعطاها ما فيه القسمة و النصيب.
لكن الرائحة بقيت كما هي برغم الفنيك الذي رشته بالمكاتب وعلى السلالم.
احتار سكان العمارة ولم يجدوا حلا لتلك الرائحة الغريبة.
الأستاذ رمضان خبط بكفيه على رأسه كمن تذكر شيئا لم يخطر في باله من قبل وقال:
تحية لطمت على صدرها وقالت:
فوزية التي فاتها قطار الزواج منذ زمان بعيد، كان أخوتها يترددون عليها كل فترة حتى شغلتهم الدنيا ولم يعودوا يزورنها إلا في الأعياد.. باتت تسليتها الوحيدة في تربية القطط.
زوجة الأستاذ رمضان كانت دائما تداعبها وتقول:
لكنها كانت تقول: إن القطط مثل البشر..تحس بك وتحنو عليك كما تحنين عليها، لكنها تختلف عن البشر في أنها لا تنهشك بلا سبب.
في المرات القليلة التي دخلت عليها شقتها لم تكن تستطيع أن تضع قدميها على الأرض بسبب عددهم.. كلما تناسلت القطط احتفظت بصغارهم، حتى أصبحت لا تستطيع حصر عددهم.
سألتها: وكيف تنفقين عليهم؟.
قالت: إنها تقتسم معاشها معهم.
اعتاد سكان العمارة ألا يلحظوا خروج فوزية من شقتها أو دخولها إليها، حتى ظنوا أن عالمها كله داخل جدران شقتها.
لم يعتد أحد رؤيتها إلا مرة وحيدة في الشهر، عادة ما تكون في بداية كل شهر حين تخرج لقبض معاشها.
أسرعت تحية بصحبة الأستاذ رمضان وواحد أو أكثر من العاملين بالمكاتب التي في العمارة بالهبوط إلي شقتها.
ظلوا يطرقون الباب طويلا دون أن يجيب أحد عليهم.. فتأكدت لديهم الهواجس.
انتفض أحدهم ودفع الباب دفعة قوية ظنا أنه يستطيع فتحه، لكنه ارتد متألما دون فائدة.
أحدهم قال:
وأسرع يبحث عنهما في أحد المحلات القريبة.
غاب للحظات ثم عاد وظل يطرق على الباب طرقات عنيفة حتى انكسر القفل وانفتح الباب.
رائحة عنيفة واخزة منعتهم من الدخول.. الكفوف ارتفعت سريعا على الأنوف لمنع الرائحة من الوصول إليها، لكن دون فائدة.
الأستاذ رمضان كاد أن يتقيأ.
تراجع خطوات وقال: إنه لا يستطيع أن يدخل معهم.. لكن أحدا لم يسمعه.
كانوا تغلبوا على وخز الرائحة وسبقوه إلي الداخل.
أحدهم ضغط على زر الكهرباء فصعقت العيون الأجساد المنتفخة والمتعفنة التي تنتشر بكل مكان بالشقة.
سعلات طويلة دوت بين الجنبات وتأفف قاوموه وهم يبحثون عن الست فوزية في كل مكان دون إن يجدوا لها أثرا بالشقة.
أحدهم حمد الله وقال: إنها ليست هنا.
تحية قالت: ولكن هذا معناه أنها لم تبت في شقتها منذ أيام.
أحدهم هرع إلى الخارج واتصل بالبوليس الذي حضر سريعا.. عاين الشقة وصحب معه بعض الأدوية التي وجدوها إلي جوار سريرها.
تحية قالت أنها أدوية للألزهايمر.
البوليس اتصل بأخواتها وسألهم عنها، لكنهم لم يعرفوا عنها شيئا ولا إلى أين ذهبت؟
تحية من جانبها ظلت لأيام تبحث عنها في أقسام الشرطة والمستشفيات ودور المسنين والشوارع.
تسأل أصحاب المحلات وأمام الجوامع وقت دخول المصلين ووقت خروجهم وبعد صلاة الجمعة.
في أيام الآحاد تذهب إلى الكنائس وتنتظر حتى نهاية القداس وتظل تتفحص في وجوه العجائز وتسأل عنها.
سألت موظف البنك الذي اعتادت فوزية أن تقبض معاشها منه، أخبرها أنها لم تقبض معاشها الشهر الماضي.
إخوتها حضروا وطلبوا من تحية تنظيف الشقة..
أغلقوها بعدها وصحبوا معهم المفاتيح بعد أن عرضوا مبلغا من المال على تحية.. لكنها رفضت.
قالت: إنها لن تأخذ أجرها إلا من الست فوزية حين تعود بالسلامة إلى شقتها.
مرت سنوات على غياب فوزية..
إلا أن تحية تحرص كل ليلة أن تطل من فوق سطوح عمارتها ترقب الشوارع والشبان الساهرين على الأرصفة والرجال العائدين منهكين من العمل والنساء السائحات والشبان والبنات العائدين من مواعيد غرامية، بحثا عن وجه يشبه وجهها ربما صادفته بينهم.
بين الحين والآخر تشم تلك الرائحة الواخزة من جديد..
تتحسس قططها التي تكاثرت ولم تعد تستطيع أن تحصي عددها..
تتأكد من نظافتها جيدا وتتعجب من تلك الرائحة الغريبة.