*كلارنيت: آلة نفخٍ موسيقية ذات صوتٍ فخمٍ يتسّم بالحزن.
الرجل ذو اللحية الكثةِ يحملُ "كلارنيته" وينفخ فيه بولَهٍ وحرقة.
يتمايل يميناً وشمالاً كمن يريدُ إطفاء نارٍ علقت بجسده فيرخي عوده ليهبط منحنياً ويسكب نغمتهُ الحزينة التي تنهش الأحشاء. في أذنيه علق قرطيْنِ كأنهما خاتمٌ فضيٌّ لم يُغرس في قلبهِ فصٌّ أو حجر. خِلتهُ يبكي، يتألم مع الكلارنيت فينفجر بصياحٍ أقرب لصرخة امرأةٍ تنوح أبناءها القتلى. كان وراءه اثنان يحملان قيثارتين وآخر يضرب على الطبلة، وبقربه يقعد رجلٌ ضخمٌ أجلس آلة القانون على فخذيه وهو يضرب أوتارها برأس أصابعه كمن ينحت صخرةً لينهمر اللحن ذائباً وطريّاً.
ينظر صاحب الكلارنيت للجمهور وكأنه يطلب المواساة. جبينهُ المائج وحاجباه المقوسان يلفحانني بألمه الذي يكيله لي هذا الصوت، رغم أنني كنتُ خلف الشاشة أخضرُّ وأخضرُّ كريحانةٍ نديةٍ ستذبل بعد أن ينطفئ هذا الصوت.
* * * *
تفتح امرأتي جهاز الكمبيوتر وتبحث عن هذا العازف، تكتب كلارنيت فتطلع الصور والمقاطع التي ترسم في عينيّ البهجة. يمتدّ الصوت فتهبني ابتسامة أشداقها الجميلة:
لا تغادر عينيها وجهي إلا حينما تراني مبتسماً وأنا أبحر مع تلك الألحان، ثمّ تهمّ بأخذ ثمرة عشر سنين بعيداً: طفلنا الذي أصبح لا يعرفني.
كان يومها يتقلب في قماطه وأنا أتدحرج علي سريرٍ مهترئٍ وأتلفّع بدثارٍ قديمٍ تعلّقتْ فيه رائحةُ الأجساد النتنة وبللتها الدموع، دموع الفراق والمسافات البعيدة التي تفصل القلوب الوالهة. كنت حينها أنظرُ لنافذةٍ يتيمةٍ أرى منها السماء الحالكة ونجمة عابرة، ولا أسمع غير تلاطم الموج الذي ينداح من وراءنا ويثير جلبته المعتادة.
عشر سنواتٍ، مهرها الرجل المتشِّح بالسواد ثم ضرب مطرقته وأمرنا بالانصراف فرقدتُ في ذلك القبر حتى لقيت نفسي بعدها مرمياً بجانب بيتنا العتيق الذي عبرتهُ السنوات، فصدأت جدرانه وتيبّست سدرته الخضراء اليانعة التي ركزها جدّي قديماً أمام المنزل، لكنّ السنوات العشر أحالتها صفراء...متوحشةً وحزينة.
طرقت باب منزلنا فخرج طفلي ومن ورائه زوجتي تسأل عن القادم، فوجداني أغوص في بحرِ شعري والحياء يركبني وأنا أنظر إليهم كالذليل. فتحت زوجتي فُرجةً في مشمرها لتمعن النظر، ولمّا التقت عيوننا كادت تسقط من الدهشة والفجأة.
يبدو أنّ وجهها أكلته الأيام أيضاً. شعرها الصقيل تقصّف وغدى متعرجاً وباهتاً وعيناها غائرتان. بكت زوجتي بعد انفجار أحشاءها. صرخت ثم أهاضت أضلاعي الذائبة:
عانقتها وبكيت كطفلٍ ثمّ اندسّ ولدي بين أرجلنا ليبكي معنا. تحلقنا حول بعضنا البعض ولم نقم إلا بعد أن ربتت على كتفي يد أبي الخشنة. صوته الأجشّ ووجهه المتموّج ينبشان ذاكرتي. لاقاني بعينيهِ الغضّتيْن وغضبٍ مشوبٍ بالعطف على ابنه الذي كسر صورته في القرية.
قمت لأحتضنه فحاول الهرب لكنّ بدنه لم يسعفه على ذلك. لثمتُ جبتهه وأمسكت بيديه وأنا ألتهمها بقبلاتي لأهبهما اعتذاراً طويلاً. رأيتُ عينيه تسحّان وصدره يعلو ويهبط ثم يسعل بعنفٍ حتي يكاد صدره ينفجر.
أجلسناه وجلبت له زوجتي الدواء، ثم لم ينبس بكلمةٍ حتى اليوم الذي ألحدناه فيه ولففنا غترته على شاهد قبره الذي أحرص كل أسبوعٍ على سقيه بالماء ونثر المشموم، لعلي أكفر عن ذنبي تجاه هذا الرجل الطيّب الذي تحطّم جسده وهو يحمل المنجل ويقلع أعشاب الدالية التي غدت الآن غابةَ من الإسمنت، ابتلعها سماسرة العقار الذي يحرثون أيّ أرضٍ بذاكرتها وتاريخها لينالوا ربحاً يراكمون به ثروةً طارئة.
** ** **
أمشي في الأزقة فتلعنني الألسن والشوارع والبسطات التي يقتعدها الفارغون. الجميع يحتقر ناصر الذي قضى في السجن عشر سنواتٍ من عمره، فيها نمى ابنه يتيماً من غير رعايةٍ ولا دفءٍ أبويٍ، فكان في كنف جده الفقير والأمّي، والناس كما كانت تقول أمي دائماً:
كلّ ما يمتلكه أولئك هو تلمظ سمعتي بين الأحناك القذرة ولوكها بما يستطيعون من الحكايات اللعينة. أعاقر بطالتي وابني يكبرُ أمامي كغصنٍ مكسورٍ. هو غريبٌ عني وأنا غريبٌ عنه. ما الذي يعيد الزنك الصدئ لامعاً وفضياً كالمرآة ؟ وكيف للنخلة أن تتسامق من غير أن يسقيها أحد ؟، كيف لهذا البدن أن يبقى على قيد الحياة لولا مدّهِ بالماء والطعام والهواء، حتى الماء الذي يركدُ طويلاً فإنه يصبح آسناً، الأشياء الحيّةُ جميعها تتحلّل وتتعفّن إذا ما تركوها، كذلك الأفئدة التي تآكلت من الهجران، ، نادرةٌ هي الأشياء التي نتركها وتبقى كما هي، حتى إذا عدنا وجدناها مثلما كانت.
خيطّ ما انقطع منذ زمنٍ ولم أجد أثره بين أضلاعي، رغم أنني بقيتُ أنتظر هذه اللحظة التي أعانقه فيها طويلاً، بعد أن كنتُ أبللُ شوقي ولهفتي في تلك الزيارات الخاطفة.
تتناسل الأسئلة في صدري، الأوهام عنها وعن كلام المعتوهين. الجنون يقتحمني وكأنني خرجت من سجنٍ لسجنٍ آخر، حتى وجدت زنزانتي البالية أرحم من هذه الحقيقة التي أندفعً لمواجهتها وأنا أجد نفسي محروماً من شجاعةٍ افتقدتها منذ أن انكسرتُ قبل عشر سنوات.
هل سأبقى كموجةٍ ضائعةٍ ستستحيل زبداً على صدر الصخور الصلدة ؟، هل أجد ضفةً بعيدةً أرمي فيها وجعي وأسافر عن كلّ الوجوه التي تحاصرني وأنا لا أملك شيئاً ؟، حتى علبة السجائر ابتاعتها لي زوجتي مما يجود به الأقرباء وجارنا الملاّ علي، الرجل الوحيد الذي بقيتُ أثق به في القرية، ولا زال يطربني بصوتهِ منذ كنت طفلاً حتى الآن، في المواليد والمراثي على السواء حين يجلسُ متجلبباً ببشتهِ البنيّ على المنبر الذي يتوسّط مجلسه الضيّق ويطلقُ صوتهَ الرنيم.
أمشي والليل ينزل على الشارع الممتدّ من قريتنا للقرية الأخرى فيصفرّ بعد أن تنقدح أعمدة الإنارة. بإزائه مقبرةٌ يقابلها مسجدٌ قديمّ، أمامه كرسيٌ خشبيٌ طويل يظلله سقفٌ معدني. هممتُ لأقتعده وأضمّ ذراعي إلى صدري بعد أن بلّلتني زخات المطر التي بدأت تتهاطل بوقعٍ خفيفٍ لم يلبث أن أصبح قوياً كإيقاع الطبلة التي يترنح الكلارنيت على درجاتها.
وجدت عذق نخلةٍ تدحرجهً الريحُ نحوي فقمت مسرعاً إليه وأخذته ثم عبرت إلى المقبرة وكدتُ أتعثر بشواهدها الطينية. ثمة مصابيح تضئ من بعيد لكنّ المقبرة مظلمةٌ وكأنها في عالمٍ آخر، بُعدٌ زمنيٌ ومكانيٌّ لا يتقاطع أبداً مع هذا الكون إلا في السور الذي يفصله عن الشارع الهادئ تماماً من أي حركةٍ سوى خطواتي قبل قليل.
صرتُ لا أشعر بالزمن منذ خرجت من السجن، والآن ربما يومٌ، يومان أو ثلاثة، لا أعلم، مذ تركتُ المنزل وهمتُ على وجهي في الطرقات. نظرتُ إلى القبور وقمتُ أدعو الموتى، ترعد السماء وتبرق ويركض المطر كالأحصنة مثيراً جلبةً هائلةَ فأنتشي بحزنهِ والذكريات. وقفتُ على صخرةٍ ثم أمسكت بالعذق المحنيّ وقرّبته إلى فمي وطوّقته بكفيّ مثل الكلارنيت. شحنتٌ رئتيّ بالهواء وزفرتُ في الغصنِ وصرت أدندن باللحن الذي يسحرني به ذلك العازف التركيّ الحزين.
قمتُ أتلوّى كالثعبان. أرقص وأرقصُ وأرى الموتى يخرجون من قبورهم بثيابٍ أثيريةٍ شفّافةٍ ليسمعوا موسيقاي والمواويل التي أمدّها بهمهماتٍ طويلةٍ أقطعها بعُرُباتِ حلقي وأحبلته المتشققة، تارةً بصوتٍ عالٍ حادٍ ثمّ أهبطُ بها إلى سلّمٍ موسيقيٍ آخر حتى أجرّ أوتار حنجرتي لطبقةٍ صوتيةٍ خفيضة، تساعدني في ذلك بحّةٌ خلقها التبغ. قمتُ أدورُ وأدورُ حول نفسي كصوفيٍّ عرج بروحهِ لعالم الملكوت، ولكم تمنّيتُ ساعتها أن أحترقُ بنار العدمِ ثمّ أتلاشى في فضاء النسيان !.