(1)
في تلك اللّيلة التي غابَ فيها القمرُ ، وغفتْ الكلماتُ في قرارةِ الذاكرة ، عاودَهُ داءُ الكتابة ، وخامرتْهُ نزوةٌ عابرةٌ ليؤلِّفَ قصةً ساخرةً يستميل فيها بعضَ الأذواقِ ، وقد حارتْ به السُّبلُ في إيجاد خيوط الحكاية بعد أن عصته اللّغةُ ، وأدارت له الحروفُ ظهورَها ، وهو لا يتورع في مثل هذه الحال من الانقضاض عليها بغيةَ ذبحِها بحدِّ القلم ، وسفحِ دمائها بين السطور ، وتدنيسِ عذريتها بالمداد الأسود ، إذ لم يعتدْ طيلةَ مزاولتِهِ صنعته خروجَ الكلمات عليه ، وتمردَ الحروف على سلطته .
وعلى كلِّ حالٍ لم يكن أديباً بارعاً في حرفته، إذ لم يكتب في زمانه كلِّهِ قصةً واحدة تأتلِفُ فيها الحكايةُ مع اللُّغة ، أو ينسجم فيها اللَّفظ مع المعنى ، من أجل ذلك كانت سيرتُهُ مع الكتابة صراعاً واقتتالاً وعُنْفاً ونزيفاً يُدمي نهاياتِ الأحاديث ، ولهذا لم يرَ سُجُفَ الخيال لامعاً إلا من خلال مُعترك تنداحُ فيه الأفكارُ في عالم يُؤذن بالإباحية والتّحلل و القتل ، وكما أنّ الكلمات في قصصه ضحايا بريئة ، كذلك كانت الأفكار مكممة الأفواه مستلبة الإرادة ، لا تمتلك فضيلة التطلّع إلى الحرية والخلاص ، وأيّ خلاص ذاك الذي يروم إطلاقه في خِضَمّ اختناق الكلمات الحبيسة في زنزانة الذاكرة المظلمة؟
كانت الأسبابُ الجوهرية التي تقضي على إحساسَهُ بروح اللّغة الطليقة عائدة إلى شغفه بتصوير حكايات الناس المعذبين ، وقد انكشف له طرفٌ في خياله المعتم ، فحواه أن الظلام الرهيب من حوله ليس شيئاً غير نفسه، والآن حان الوقت ليكشفَ جُزءاً من ذاته فيدخُلَ لأوّل مرة من خلال القصة إلى العالم من باب الذات ، غير أنّ ما أفسد عليه متعةَ المكاشفة أنَّ نفسه خالية كصحراء وموحشة كقبر ، ومع ذلك فلديه عزم على تخيّل ما يمكن أن يبني بوساطته قصةً تختلف عن سائر قصصه .
أخفق تلك الليلة في تأليف جملة واحدة تَحْسُن أن تكون نواةَ قصة مثيرة ، وأيقن أنّ خيوط القصة هذه الليلة قد أُفلتتْ من بين يديه ، فأراد خلافاً لطبعه أن يدعَ اللّغة ساكنة ، والكلمات قارة في الأعماق ، وفي صميمه رغبةٌ مضادة للكتابة لا تريد أكثر من أن تتصيدَ شيئاً من الهدوء الذي تلتذُّ به عوالمُ أخطأت في ضَمِّهِ إلى شرعتها ، وكان عليه أن يستأثر بخوفه وقلقه وهمومه ، لتمضي به رحلةُ الشّقاء إلى النهاية من دون أن يُبدي لوناً من الاحتجاج أو يظهرَ صوتاً رافضاً في سماء تضجُّ بالهدوء وبالصخب في آن.
أطلق من نفسه كلَّ الأسئلة الحائرة ، وضعها في وعاء الذاكرة ، محاولاً دفنَ نفسِهِ في مساحة ضيقة يحصرها جدارانِ مُتقاربانِ، لم يتركا بينه وبين الأرض مسافةً يمكن أن تسبحَ فيها نوارسُ روحِهِ التائهة ، فبدت الدنيا عليه أضيق من ثقب إبرة ، وكذا اللّغة اختُصرت في سؤال واحد ، لا بل في كلمة واحدة امتلكها رجل ليس من طبعه تذوق الكلمات ، من أجل ذلك ، لم يفكر ملياً في مساحة أوسع تسبح فيه الأحلام وتنداح فيه الرؤى ، فالحُلُمُ لم يستجمع في تلك الليلة اللعينة بين أطوائه إلا خيال ثلة رجال أشداء ، غاصت البنادق في خواصرهم الممتلئة ، وغابت أجزاء من جُعَبِ المخازن في صدورهم المنتفخة ، وقد تدلت من فوق أحزمتهم بطونٌ ممتلئة ، لا يَصْدُرُ عنها إذا ما ضاقت إلا فحيح الأفاعي ، وفي ذلك أبلغ الدلالات على تحطيم غلائل الأحلام الرقيقة ، وسجوف الأضواء اللامعة ، وكيف لذاك الحُلُم أن ينقضي وقد جُبِلَ بالأرق وعُجِنَ بالخوف ، وهو لا يستطيع إلا أن يترك كوابيسه تجتاح ذاته القلقة من دون أدنى محاولة للهروب إلى الأمام ، بعدما شُغِلتْ مساحاتُ الحسِّ بالأشباح التي تريد اقتلاع ذاته من ذاته ، وتريد أن تفرغه من محتواه ليكون صندوقاً فارغاً ، أو تَحْظُر عليه السباحة في عوالم الوهم، وكان لا يزال إذ ذاك يهوى الشموخ ، ويُحِبُّ أن يملأ رأسه بالأفكار ، بوصفه صاحبَ قلمٍ وذا كلمة محترمة مسؤولة تُلزمه بممارسة جُنْحة الكتابة.
هذه سيرتُهُ المعذبةُ ، ملخصها أنّه محسودٌ مما يشكو منه ، وما يشكو منه في قرارة الأمر خطير ولذيذ في آن ، خطورته في كون بضاعته كلمات ، واللّذة في ذلك أنّه أحسنَ خنقَها، ولاسيما حين كان يضعها عَنْوَة بين السطور ، بيد أنّه في الآونة الأخيرة قرر أن يتركها في سباتها ، ويمضي مع أوراقه الخالية، وأوهامه الكاذبة إلى أن يطلع النهار ، والذي باغته مع تباشير الفجر أن عدداً من شذاذ الآفاق حطموا هدوء الحي الذي يسكن فيه ، وهو يرقب خطواتهم من خلف النافذة ، إذ سرعان ما توجهوا إلى منزله وكأنهم يعرفونه من قبل ، صَعِدوا جميعاً مع أسلحتهم في المصعد الضيق ، وكانت البنادق إذ ذاك موجهة إلى الأعلى ، ولما وصلوا إلى الطابق الذي يسكن فيه ، اتجهت البنادق تلقائياً نحو باب شقته ، وهو كان بالانتظار يرقب مجيئهم من كوة في الباب ، ولم يمهلهم ليدقوا بابه بل جعله مشرعاً أمامهم ، ومن دون أية كلمة وكزه كبيرُهم قائلاً : أُمرنا بدهم بيتك ، سر بنا إلى الشرفة التي ترقب من خلالها ضوء القمر ، أو إلى تلك التي تحبس فيها الكلمات . ومن دون أدنى تردد قادهم إلى الشرفة التي تكدست فيها الأوراق وتراكمت فيها الأوهام، فقال قائل منهم : أخبرنا بالتفصيل الممل ماذا كتبت فيها ، ومنذ متى وأنت تستبيح الكلام، وتستأثر لوحدك بسحر الكتابة ، وحرارة المناجاة ، مع من تتعامل ولمن تكتب ، وإلى متى ستبقى صامتاً وأنت في لجة تيه ، أجب وإلا ...
قال على الفور: تلك الأوراق خالية ، وكنت قد حاولت هذه الليلة استدعاء بعض الكلمات ، لأفض فيها عذرية الصفحات الناصعة، لكنها كانت نائمة كالعادة ، أو أن رغبتها في مغامرة غزلية مع الأوراق قد انتفت ، وقد أعياني استدراجها كالعادة على الأوراق ، انظروا إنها فارغة وليس فيها خط واحد ، وأنا بناء على ما سألتم أكتب للطيور وللقمر وللفراشات الصغيرة ، فقد كان بوسعي أول الليل أن أصنع للطيور كلمات تغنيها ، وللفراشات أجنحة من نور تحلق فيها ، للقمر وشاحاً يتزين فيه ، أكتب لمن لا يجيد لعبة القراءة ، وأكتب لمن لا يعي سحر الحروف ، ولا يعرف تأوّل الكلمات ، أعلمهم بإصرار أنّ الكلمة لا تصنع حياة من دون لسان ، وكل ما ذكرت يا سيدي ، ليس له كلمات، وليس له لسان ، لكني اليوم بالتحديد لم أبُحْ للفراشات وللأقمار وللعصافير بأي سِرّ ، وصدقوني إنّ قضيتي الوحيدة أنني لا أزال معتصماً بحبال الصمت .
ردَّ عليه رجل حليق الرأس مطلق اللحية طويل الشاربين: لا نصدّقك ولا نكذّبك ، وما ذكرتَهُ لم يَلْقَ في أسماعنا أيّ صدىً ، لأننا لم نعتدْ على سماع الكلمات ، نحن لا نعرف سوى تنفيذ الأوامر ، وما يخصُّك أنت بالذات شيء يسير ، فقط مجرد سؤال ثم تمضي في سبيلك .
(2)
في غرفة مظلمة، أُلقي كما يُلقى ثوبٌ بالٍ ، ارتطم بجدار سميك خشن حزَّ ذراعه كما يَحِزُّ القلم بريشته الصفحاتِ الناعمةَ ، ثم سقط على صدره ، وقد اختلطت أنفاسه برائحة عفنة ملأت منخريه ورئتيه لتغلق نهائياً مجرى التنفس ، يدفعها بزفير متقطع يرافق نشيجاً يصدر من أعماق جوانح تحتضن قلباً متعباً.
تُركَ في غيابةِ الظلمة مع أنفاسه الحرّى ، وهو يحاول تصيد حُلُمٍ تائهٍ في رحيل الكلمات ، ليأتيه صوتٌ غليظ دهمه مع حذاء ضخم وضع على مقربة من منخريه ، يأمره بالوقوف والاستعداد لمقابلة رئيس فراع الأمن العسكري. لملم قطعاً من نفسه كانت قد تناثرت في زوايا مقززة ، وبعامل الضوء وعى أنه لا يزال جسداً واحداً ونفساً متشظية ، طلب من صاحب الحذاء الضخم أن يساعده على النهوض ، بيد أنّ تلك الأمنية كانت صعبة التحقيق ، لأنّ ذا الحذاء تجرّد من معناه ، وخلع عن نفسه لبوس البشر بعد أن انتعل ذلك الحذاء الكبير ، فقال له بصوت أجشّ يخرج من فم تخمرت فيه سحائب التبغ : قم وإلا ...
عاد ثانية يستجير أطرافه والجدار ، لينتصب كشجيرة غضة ، أخذه صاحب الحذاء الضخم بقبضة وحشية ، ثم وقف خلفه ساحباً ذراعيه بعنف ، مكبلاً إياه بزردة حديدية ، وبحركة سريعة تناول عِصَابة كانت بحوزته ، ليعصب عينيه ملغياً بذلك آخر خطوط الضوء التي كانت تتسلل إليه من زاوية في الباب .
دفعه أمامه دفعات متتالية ، وكان كشف ظهره للكم والوكز ، وقد قرر أن لا يئن مهما اشتدت الضربات ، وأن لا يردَّ مهما جرحت الكلمات ، أراد أن يثقَ بالصمت ، ويحاربَ بالسكوت ، وبعد هنيهة وصل إلى المكان الذي يعجّ بأصوات المخطوفين ، وقد استأنس بصرخات آدمية ، وامتلأت أذنيه بأنين المعذبين وبأدعية المظلومين الذين تمزقت أحشاؤهم وهم يصرخون إننا أبرياء ، يخنق عبراتهم لكمٌ وضرب وحشي على الرؤوس والصدور والأقفاء ، وأوجعها على أفئدتهم كلمات قاسية تستجيب لتوسلاتهم المحزنة بالشتم وتمزيق الأعراض ، فأدرك حينئذ أنّ الكلام متآمر خسيس يستجيب بسرعة للألسنة البذيئة الظالمة ، ويستعصي على ذوي الأفواه المكممة ، والقلوب الجريحة ، والصدور العارية ، لقد خلت الكلمات في ذلك الموقف من الرأفة ، وانتصرت لأصحاب الأحذية الضخمة ، وأصحاب اللحى المتدلية بغير تشذيب ، وصار العالم في هذه البقعة حكراً على فئة قليلة تتحلى بفضيلة التكلم .
أسندوه إلى الجدار ريثما يحين دوره في لقاء رئيس الفرع، وقد طال عليه الانتظار، فبدا قلبه إلى التوقف أسرع منه إلى موعد المقابلة ، ارتخت ساقاه ، فترك جسده يتدلّى على الأرض كمن أراد أن تعلو قدماه رأسَهُ وَفْقَ تشكيل غير اعتيادي ، معبِّراً عن رغبة في السقوط ، وتوديع دنياه وهو مسترسل ومُذعن لكلّ ما يمكن أن يُتهم به ، وهو يعرف متيقناً أنّه سيموت من دون تهمة وبلا ذنب ، ولكنّه يريد أن يستمتع بالموت مسترخياً وحوله عالم صاخب من الأصوات الضعيفة والصراخ العنيف .
جاءه صاحب العضلات المفتولة مفسداً عليه لحظات النهاية تلك ، فانتشله بقبضة فولاذية ، وصوته العنيف يعصف في أذنه قائلاً : أنت تحسن التمثيل ، تريد أن تتظاهر بالمرض والضعف ، ولكنّي سأعلمك كيف يكون الضعف الحقيقي والموت الزؤام.
(3)
وُضعتْ على كتفه يدٌ ناعمة ربتت عليه بحنو غير معهود ، وبلطف جمٍّ جذبته إلى جهة لا يعرفها ، ثم جاءه صوتٌ رقيق : انتبه أمامك العتبة ، نخاف عليك أن تتعثر ، ذهل من رأفة لم تكن بالحسبان ، فقال بضع كلمات : هل حياتي لها قيمة في هذا المكان ، ردَّ عليه صاحب اليد الناعمة والصوت الرقيق : طبعاً ألست كاتباً مثقفاً ، إذن أنت مهم ، فمن هو مثلك يستحق التكريم والتبجيل ، وهل هنالك من يضاهي أصحاب القلم ، لا عليك حياتك عندنا ثمينة ، وكلماتك التي تخطُّها في الكتب والمجلات كنوز عندنا ، وقد لا تتصور أننا حين لا نقرأ لك قصة أو مقالة لا نعدُّ ذلك اليوم في أيامنا ، وعلى كلّ حال فأنت هنا في ضيافتنا ، إننا أخوتك وذويك ، وعليك أن تتيقن أنّ وجودك هنا لسبب ، وهو سبب جوهري كما أظنّ ، واطمئنْ سوف تحتسي الكركديه الساخنة في الداخل وتتكلم كما تشاء ، وسيكون الجميع ممن يستمع لأحاديثك ، والآن اسمح لي أن أخذك إلى رئيس الفرع الذي اشتاق لسماع كلماتك ، وهذه فرصته في الحقيقة لكي يراك شخصياً بعد أن أُعجب بك من خلال ما تكتب ، وها قد آذنت له الظروف برؤيتك شخصياً ، ولسوف يفرح كما أظنّ بأنّ زمانه جاء مع زمانك ، إذ سيتفاخر بلقائك أمام أفراد أسرته وزملائه.
استولى عليه العجب ، وتضاعفت دهشته مما سمع ، وقد عاد النبض إلى قلبه متوازناً ، وقال في نفسه: ها قد عرفت الآن طرفاً من حقيقة المكان الذي أنا فيه ، فما كنت سمعته منذ قليل كان مجرد مؤثرات صوتية تستهدف امتحان أعصاب المعتقلين ، لمعرفة معادن الرجال ، إنّه اختبار وكنت أتمنى أن أتحلى بالصمود قليلاً أمام تلك الصيحات المستجيرة والأصوات المعذبة ، وأنا بلا شك سأكون في حرج شديد وأنا واقف أمام رئيس الفرع الذي سيعاتبني على انهياري وعدم صمودي ، ولكنّي قد التمس لنفسي عذراً، وهو أنني لا أصمد بوجه الكلمات عادة ، فهزائمي معها يشهدها الورق على الدوام ، ومع ذلك فإنّ الكلمات التي سمعتها اليوم قد لا تكون حقيقية ، وهذا بالتأكيد طبيعي فعيناي كانتا معصوبتين ، وقد صدق من قال : لا تصدق كلّ ما تسمع ولا نصف ما ترى.
(4)
وقف أمام رئيس الفرع، مستعداً للإجابة عن أيّ سؤال ، وكان هنالك شعور يجول في خاطره ، لماذا أبقى إلى هذه الساعة مقيد اليدين ومعصوب العينين ، أليس ذلك يوهم بأنّ كلمات صاحب اليد الناعمة والصوت الرقيق لها مغزى آخر غير الذي تناهى إلى مخيلتي ؟
قال رئيس الفرع بصوت مسموع : ليس هنالك ما يدعو إلى تعريف نفسك ، فأنت معروف لدينا ، ولاختصار الوقت ، أريد أن أقول لك إنّك هنا لمجرد سؤال عابر ، وبوسعك أن تنصرف حالماً تجيب عنه ، والآن : أنت لا تتكلم ولا تحتج ولا تناهض ولا تجيب عن أيّ قضيةٍ تُسألُ عنها من قبل جيرانك وأصحابك وأقاربك ، ولم تُبْدِ رأيك فيما يدور حولك ، ولم تتورط في حياتك في كلمة أو تصريح ، ولم تذكر شيئاً يحمل لك شبهة الاعتراض أو التذمر ، ولم ترتكب أيّ فعل يدعو للتساؤل ، ولم تزعج في حياتك شخصاً ولم ترتكب جرماً ، وليس لك مساحة تشعلها في الحياة سوى بضع صفحات على الورق تهيم فيها ، ومضمار من الخيال تطير فيه . وهذا كلّه عندنا قريب من الشبهة التي تستلزم التوضيح ، فهات ما عندك.
استجمع قواه كلّها ووضعها تحت لسانه ، ثم حرّك الكلمات التي كانت تقبع في تجاويف فمه ، محاولاً اختيار أبلغها للردّ الشافي عن سؤال الزعيم ، وقد لا حظ أنّ السؤال فيه أكثر من طلب ، لذا فمن الطبيعي أن يكون لديه متسع من الوقت ليتكلم على سبب صمته ، لأنّ شبهته فيما بدا له أنّه بقي صامتاً ، وقد أيقن أنّ المقولة التي يعرف سحرها جيداً " الصمت من ذهب" لن تنجيه اليوم ، وهو لا يزال مرتهناً في قبضة حديدية ، وقد حارت به السبل من أين يبدأ ، وما الكلام الذي ينقذه من هذه الورطة ، وما النتيجة التي سوف يستخلصها الزعيم بعد سماعه .
تدافعت كلمات في البدء على لسانه ، ولكنها لم تكن بالفصاحة المرجوة ، مط بعض الحروف التي تكشف أسئلة أكثر من تعبيرها عن قرارة ما يفكر به ، فضرب رئيس الفرع يده على الطاولة قائلاً : لا تتلاعب بالكلمات ، صبري نفد ، وليس لديّ وقت للاستماع إلى فنون البلاغة وألوان الفصاحة ، قل باختصار لننهي المسألة ، وأحذرك من التزيد والثرثرة .
كانت هذه هي المرة الأولى التي يأمره أحد بحبس كلماته في سجن فمه ، ابتلع مقداراً كبيراً منها كان يتمنى أن يلقيها على أسماع ذلك الرجل الحديدي ، ولكن الوقت غير مناسب ، وليس لديه سعة ليقول كلّ ما يريد ، وتذكر على الفور كلام صاحب اليد الناعمة والكلمات الرقيقة ، أنّه سيُعطى الوقت الكافي للحديث ، ولكنّه فيما يبدو أساء فهم مقالاته ، فلعلّ ذاك الرجل أراد أن يقول له : قُلْ ولكن بإيجاز ، وهذا كلام سليم فمن يحتمل اليوم كلاماً مُسْهَباً ؟
نعم يا سيدي إنني كنت أفضل الصمت ، قاطعه رئيس الفرع، ومن سألك عن رأيك في هذه المسألة ، أسألك لماذا تصمت؟
فتح فمه ليجيب وقبل أن تنزلق من لسانه كلمة واحدة ، نهره قائلاً:
ـ هذا يكفي لقد اعترفتَ ، ثم استدار إلى الكاتب قائلاً : اكتب لقد اعترف بكل شيء ، بعد أن أُعطي الوقت الكافي للإجابة بحرية عن السؤال الموجه إليه.
حمص: 18/9/ 2012