قصة: الوجه الجميل
بقلم: سريعة سليم حديد/ سوريا
لملم الشفق حرائقه، مضى مخلفا رماداً أسود، ملأ القرية هيبة وسكوناً. ارتاحت قبعة الليل على الباب الخشبي العتيق، وقفت الفتاة تنقره نقرات خفيفة مشوبة بالخوف والقلق, وقد أنهكها التعب، وهي تجري باحثة عن ملجأ يقيها من شيء ما.
اندلفت داخل الكوخ، ارتمت على ما يشبه السرير, تنهد الباب, ينغلق وراء العتمة الليلكية, وقد بثَّتْ شعوراً مضطرباً في قلب صاحب الكوخ الذي باغتته المفاجأة, وانتشر شعوره المضطرب في أرجاء الغرفة, وهو يتملَّى الدرَّاقة الناضجة التي تفوح منها رائحة عذوبة مشوبة بالإعياء, تتمدَّد على ضفاف عينيها الذابلتين اللتين تحملان رجاء غريباً, يبحث عن حالة اطمئنان, ينداح بريقه في إشعاعات أمل مجهول.
اخترق نور الشمعة العينين المحمرَّتين اللتين هرب الصحو منهما. تضخم رأسه حتى كاد يتجاوز أضلاع الكوخ دون أن يتوصَّل إلى سر القادمة من عالم مجهول .
في الصباح سأرمي علامات التعجب وإشارات الاستفهام أمامها، وأفاجئها بما خلَّفته في أعماقي من أسئلة.
لا بد من معرفة سرّها، وكيف وصلت إلى كوخي المتواضع دون بيوت القرية الفاخرة كلها.
اقترب منها، تمدَّد ظله, اتسع صمتاً أخرس, تجاوزها إلى أعلى الجدار, فسقف الكوخ, وهو يتأمَّل وجهها الملائكي، وشعرها الأسود الطويل المنسدل على خدها, وعينيها الغافيتين في حضن النوم العميق, وثوبها الغافي فوق جسدها..
مدَّ يده يتلمَّس شعرها، جبينها، خدَّها الذي مازال بارداً، قرَّب أنفه يشتمُّ عبيرها الطيب، حاول أن يقترب أكثر، تمنَّى لو يحضنها، أن يبثَّ الدفء في جسدها، همَّ بذلك لولا نداء خفي دعاه، ليقف بعيداً, توغَّلت نظراته في تضاريس جسدها، تقدَّم مرَّة أخرى، وقف قرب رأسها، مدَّ يديه يسوِّي رقدتها، ويضع غطاء الصوف فوق جسدها، ابتعد يراقبها.
لم يستطع النوم أن يتسلَّل إلى عينيه، والجسد الجميل راقد في كوخه، وأفاعي الغريزة تفحُّ في داخله، وتبثُّ أفيونها في ضميره. فكيف يمكن لشاب وحيد أن يقف صامناً أمام فتاة نائمة كملاك على فراشه؟ إنَّ جمالها مغر جداً, ونومها الهادئ يقتله أكثر فأكثر. من أين له القوة ليصارع في داخله الأصوات المحمومة المحمَّلة بالشهوة والرغبة ؟
انحنى, قرَّب رأسها، أزاح غطاء الصوف قليلا عن وجهها، بدا خداها وقد استعادا لونهما الوردي بفعل الدفء, انحنى على وجهها, ودقات قلبه تثير في نفسه أكثر من رغبة, وعبق عبيرها يتسرَّب إلى أعماقه فيتوهَّج الحريق في داخله. مدَّ يده المرتعشة، ما إن لامس خدَّها حتى ارتعد، وقف مذعوراً، ركض باتجاه النافذة, فتحها، فتسرَّب إلى وجهه نسيم بارد, سبر ما تأجج في أعماقه من صراعات.
ساعات الليل تمرُّ بطيئة، والصراع الداخلي لا يعرف السكينة، أمسك الشمعة، أمالها على يده، بدأ الشمع المذاب ينساب على أصابعه، علَّ الألم يقتل نزق الغريزة ولهفة احتوائها.
أعاد الشمعة إلى مكانها، وبركان الصراع يقذف حممه في أرجاء الكوخ، والجسد المرمري المدثر بغطاء الصوف مستسلم لنوم هادئ وديع.
تقدَّم ظله منها مرَّة أخرى، بدأت أصابعه تقترب من صدرها، ظلَّه تجاوز السقف، ارتطم بالجدران، فانعكست صورته على زجاج النافذة وحشاً مخيفاً يتهيأ للانقضاض على حمل وديع، ابتعد عنها، ارتمى على الأرض يتلوَّى من عذابين متصارعين: عذاب الشهوة , وعذاب الضمير.
عاد إلى الشمعة أطعمها شرور أصابعه, ازداد الألم، توهج رأسه بحتمية الاحتواء. اندفع إليها مرَّة أخرى، تنسَّم عبيرها، أنعم النظر في وجهها الملائكي النائم بأمان واطمئنان, همَّ بالارتماء فوقها، تسلَّلت خصلة برد من النافذة، أيقظته من حمى الإحساس الملتهب, حملته إلى الخارج, سار حافياً على الحجارة الباردة، عسى أن تمتصَّ حرارة أعصابه, جلس على عتبة باب الكوخ كحارس أمين لملاكه الطاهر، غلبه النعاس, فنام.
بدأت أشعة الشمس تتسلَّل إلى القرية، لامست وجهه، انتفض واقفاً, دخل الكوخ، نظر إلى الفراش، رفع الغطاء، لم يجدها, قفز إلى الخارج يبحث عنها.
ـ أين ذهبت؟ لماذا خرجت دون شكر أو وداع؟ كيف استطاعت أن تتخطاني, وأنا ما زلت جالساً مكاني؟
اتجه نحو الطريق العام، رآها تركض مبتعدة, وشعرها يتطاير على ظهرها. أطلق صوتاً قوياً خرج من أعماقه الجامحة, وقفت, استدارت, لوَّحت بيدها، وتابعت جريها حتى غابت في منعطف عميق, عاد حزيناً معلقاً على أعمدة إشارات الاستفهام والتعجب.
(سبق أن نُشرت في مجلة الشارقة)